موضوع: الإسلام في حقيقته وشموله الخميس يناير 13, 2011 9:26 am
الإسلام في حقيقته وشموله الإسلام حقيقة ضَخمة تملأ حياة الإنسان كلّها ، وصبْغة ربّانيّة يصطبغ بها كيانه ، ومن أحسن من الله صبغة ، وصف الله تعالى بها أنْبيَاءَه ورسلَه ، وأثنى عَلَيْهِم بتحقّقهم بها ، ودعوة الناس إليها ، ووصيّتهم بهَا ، فقال تَعالى : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : أَسْلِمْ ، قَالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يَابَنِيَّ ! إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ ، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ : مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ؟ قَالُوا : نَعْبُدُ إِلَهَكَ ، وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، إِلَهاً وَاحِداً ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) )البقرة . والإسلام حقيقة كونيّة كبرى ، تهيمن على الوجود من أصغر ذَرّة فيه إلى أكبر مجرّة ؛ فكلّ ما في السموات والأرض عبد مُطيع لله ، خاضع لأمره ، مُسَبّح بحَمده ، لا يخرج عن طاعته ، ولا يستنكف عَن عبادته :( أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ .؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) )آل عمران . (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) ) الإسراء . ( ويُسَبِّحُ الرعدُ بحَمدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ .. (13) ) الرعد . والإسلام في حقيقته العمليّة هو الخضوع لله تعالى في كلّ شأن ، والاستسلام لأحكَامه في كلّ موقف ، فالمسلم الحقّ يعْمل بأمر الله تعالى ، ويجتنب مَا نهى اللهُ عنه ، ويخضع لأحكام الله ، ويحتَكم إليه في جميع شئونه ، يقول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) )النساء ويقول سبحانه :( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ (51) )النور . وعلى هذَا درج الصحابة والتابعون ، وسلف هذه الأمّة الصالح y ، فتخلّوا عن أهوائهم وحظوظ أنفسهم لله ، وأطاعوا الله ورسوله e في المنْشطِ والمكره ، وفي العسر واليسر ، وتلقّوا الأوامرَ للتنفيذ ، وتَعلّموا العلمَ للعمل ، وحرصوا على رضوان الله في كلّ موقف . فما أمروا بشيء إلاّ استَجابوا ، ولا نُهُوا عن شيء إلاّ اجتنبوا ، وما نَزل فيهم حكم منَ الله ورسوله e إلاّ استَسلموا إليه مطيعين ، وَعملوا به راضين . أمروا بالتوحيد ، فهَدموا الأصنام ، وعبدوا اللهَ وحده ، وتخلّوا عن كلّ مظهر من مظاهر الشرك بالله .. وفرضت عليهم الصلاة فأقاموها ، وأمروا بالزكاة فأدّوها ، وبالإمساك عن شهوات النفس في الصيامِ فأمسَكوا ، وبالتجرّد لله تعالى في الهجرة والحجّ فتجرّدوا ، وببذل الأموال والأنفس في سبيل الله في الجهاد فتنافسوا في ذلك وبذلوا . ونهاهم الله عن الخمر فأراقوها ، وعن الفحشاء فاجتنبوها ، وعن الربا فتركوه ، وعن الميْسر فمنعوه .. لم يَعتذروا عن شيء من ذلك بما ألفوه من عوج ، ولم يجدوا في امتثال الأمر ، واجتناب النهي من حرج .. وفي سيرة سلف هذه الأمّة الصالح ، جماعات وأفراداً ، وولاة ورعايا ، نماذج رائعة ، ومواقف مشرقة من ذلك كلّه ، تْشهد أنّهم كَانوا المثل الأعلى في الالتزام الصادق بدين الله تعالى ، والتمسّك به في كلّ شَأن .. ـ رأى رسول الله e خاتماً من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال :( يعمد أحدكم إلى جمْرة من نَار ، فيجعلها في يده ؟! ) . فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله e : خذْ خاتمك انتفع به ، قال : لا والله ، لا آخذه ، وقَد طرحه رسول الله e(رواه مسلم) ـ ولمّا كان يوْم أحد ، أقبلت امرأة تسعى ، حتّى كادت أن تشرف على القتلى ، فكره النبيّ e أن تراهم ، فقال : ( المرأة ! المرأة ) أي أدركوا المرأة ، ولا تتركوها تقترب من القتلى ، شفقة عليها .. قال الزبير بن العوّام t :فتوسّمْت أنّها أمّي صفيّة ـ أي بلغها أنّ المشْركين قتلوا أخاها حمزة t ، ومثّلوا به ، فهي تريد أنْ تراه . قال الزبَير t :فخرجت أسعى إليْها ، فأدركتها قبل أن تنتهيَ إلى القتلى ، فلدمَت في صدري ، أي دفعتني دفعاً شديداً ، وكانت امرأة جلدة ـ أي قوّية شديدة ـ وقالت : إليك عنّي لا أرض لك .! فقلت : إنّ رسول الله e عزم عليك أن لا تذهبي .. قال : فوقفَت .. (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار) . ـ وتخلّف كعب بن مالك وصاحباه y عن غزوة العسرة بغير عذر ، فنهى رسول الله e المسلمين عن كلامهم ، فما كلّمهم أحد طيلة أربعين يوماً .. ثمّ أمرهم بعد الأربعين أن يعتزلوا نساءهم ، فاعْتزلوهنّ عشرة أيّام ، وتحمّلوا هجرَ المسلمين خمسين يوماً ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، حتّى تاب الله عليهم ، ففرحوا بذلك أشدّ الفرح ، وفرح بهم المسلمون ، وأقبلوا عليهمْ يكلّمونهم ، ويهنّئونَهم بتوبة الله تعالى .. هكذا كان انقيَاد سلف هذه الأمّة الصالح لأمر الله تعالى ، وأمْر رسوله e ، عملوا بالإسلام كَاملاً ، فقطفوا ثماره يانعة ، عزّةً وسيادةً ورفعَة .. والإسلام الذي عزّ به المسلمون الأوّلونَ دين شامل لحياة الإنْسان ، كامل تامّ .. لم يترك جانباً من جوانب الحياة ، من عقيدَة وعبادات ، وتشريع وأخلاق ، وسياسة واقتصاد ، واجتماع وعمران ، وما يتّصل بذلك ، وما يتفرّع عنه إلاّ ووضع له المنْهجَ الحكيم ، والخطّةَ الرشيدة .. راعى الإسلام جانب الروح ، فشرع لها عبادات تغذّيها وتزكّيها ، وتصلهَا بربّها تبارك وتعالى ، وتسمو بها .. وراعى الإسلام جانب الجسد ، فأمر بالعناية به ، ورعاية غذائه وكسائه ، ونظافته وصحّته ، ومصالحه وحاجاته ، ونهَى أن يحمّلَ ما لايطيق ، وحرّم كلّ ما يؤذيه ، منْ طعام وشراب ، وجرحٍ وقتل .. ووثّق روابط الأسرة : فأوجب برّ الوالدين ، وصلة الأرحَام ، وبنى كيان المجتمع على دعائم قويّة من الأخلاق الكريمة ، والسيرة المستقيمة ، فندب إلى التحابّ والتراحم والتعاطف ، والمواساة والإيثار ، والإحسَان وإغاثَة اللهْفان ..
وأمرَ بالصدق والأمانة ، والنصح والاستقامة ومعالي الأمور ، ومَكارم الأخلاق . وأحْكم الصلة بين الراعي والرعيّة ، بما أوجبه من الطاعة لوليّ الأمر في غير معصية ، والشعور بالمسئوليّة ، والسهر على مصَالح الأمّة .. وأمر الإسلام بالوفاء بالوعد ، وحفظ العهْد ، حتّى مع غير المسلمين . فالمسلم الحقّ يلتزم بدينه في كلّ شأن ، ويتحلّى بفضائل الإسلام كلّها ، بلا إفراط ولا تفريط .. فلا يوغل في جانب ، ويهمل جانباً آخر .. لا ينْصرف إلى جانب الروح ، فيَلزم المسجدَ والعبادة مثلاً ، ويهْمل جانب الجسد ، فيقعد بغير عمل وكسب للرزق ممّا أحلّ الله . والمسلم الحقّ ابن ديْن ، وابن دنيَا : متعبّد بالليل ، فارس بالنهار ، زاهد في الدنيا بقلبه ، عامل لها بقالبه ، ملتمس لمرضاة الله تعالى في كلّ شأن .. لا تشغله دنيَا عن دين ، ولا روْح عن جسد ، ولا عَمل فرديّ عن عمل اجتماعيّ ، يخدم الأمّة ، ويحرص على تقديم ما يعود عليها بالخير والنفع . هذا هو الإسلام في حقيقته ومجْمله .. إنّه هوّيّة المسلم وانتماؤه ، ومَصدر عزّته وسعادته ، والبدهيّة الكبرى التي تقوم عليها حياته ، فأيْنَ المسلمون منها .؟! وأيْن منها أبناءُ المسلمين .؟! الفاقدونَ لهوّيّتهم وانتمائهم ، المفتونون بسراب التيه والتغريب .؟! إنّ على الآباء والمرَبّين مسئوليّة عظيمة ، أن يورّثوا الأبناءَ الإسلامَ بحقيقته الشاملة الكاملة ، وأنْ يملئوا قلوبَهم بمحبّته وصدق الولاء له ، وأنْ يعلّموهم أَنَّهم من خير أمّة أخرجت للناس ، فليذكروا نعمةَ الله عليهم ، وليؤَدّوا شرطَ الخيريّة والاجتباء .
إنّ على الآباء والمرَبّين أن يورّثوا أبناءَهم الاعتزاز بالإسلام ، والتمسّكَ بمبادئه وقيمه والحرص على نصرته ، والدعوة إلى سبيله ، ليعودَ لهذه الأمّة عزّها الذاهب ، ومجدها الغابر . ويوْمَ يخرج جيْل من أبنَاء الإسلام كذلكَ فارتقب عزّاً للأمّة وسيَادة ، ورفعة وريادة .. ويقولون متى هوَ .؟ قل : عسى أن يكونَ قريباً .